التنمية الاقتصادية في الجزائر بعد الاستقلال تسود
المجتمعات السائرة في النمو و من بينها الجزائر ، رابطة نفسية مشتركة
تتمثل في تطلعها للتجديد و محاولة بلوغ التقدم ، أي الرغبة الملحة في تحقيق
أكبر قـدر من التنمية في كل المجـالات، و ذلك تعويضا لها عما تعرضت له من
تـخلف تمثل في تشويه البنية الاقتصادية و اختلال العناصر الثقافية طوال مدة
من الزمن كانت قد عاشتها تحت السيطرة الاستعمارية.
و
قد كان التحرر السياسي الفرصة المناسبة لشعوب هذه الدول و قيادتها
السياسية كي تسعى إلى بناء مجتمعاتها و الارتقاء إلى المكانة اللائقة بها
بين الدول. و إذا كانت التنمية تعتبر غاية أساسية من غايات هذه الشعوب ،
فكيف يمكن تحقيقها ؟ أي بمعنى آخر ما هي الأيديولوجية التي يمكن أن تعتمدها
القيادة السياسية في بلوغ هذه الغايـة ؟.
لقد
كان اخـتيار معظم بلدان العالم الثالث المستقلـة حديثا الطريق اللارأسمالي
لتنميتها الاقتصادية و الاجتماعية ، و هذا الاختيار أملته جملة من
المعطيات الموضوعية ، لعل أبرزها :
1-الارتباط الوثيق بين النظام الرأسمالي وبين الاستعمار الغربي الذي عانت من ويلاته هذه البلدان ، و ما آل إليه من تخلف فيها.
2-ما أبداه الاختبار الاشتراكي – في نظر هذه البلدان – من قدرة على توفير أجوبة أكثر قناعة للمشاكل التي كانت سببا في تخلفها.
3-حاجة
هذه البلدان إلى تجربة رائدة تسترشد بها ، و تبني عليها تصوراتها المستقلة
في إعادة بناء نفسها ، و هذا ما عبر عنه “ماكسيم رودنسون”
M.RODONSON في قـولـه :
“إن
الأيديولوجية الماركسية خاصة في شكلها الماركسي اللينيني كان لها تأثير
كبير ، لأنها الأيديولوجية الوحيدة التي تعطي للعالم تفسيرا مقبولا لمشاكله
الأساسية ، و كيفيات ناجعـة – على ما يبدو – للخروج من تبعيته الراهنة
(ميلود سفاري : 1990 ، 72-73).لقد كانت الجزائر من بين الدول المستقلة
حديثا التي واجهت مشكلة الاختيار الأيديولوجي لبناء مجتمع متوازن ، ذلك أن
الاقتصاد هو نشـاط مرتبط بالسياسة المنتهجـة من قبل الدولـة توجيها أو
تنظيما أو تطبيقا ، و عليه تكمن السياسة الاقتصادية كاستراتيجية و التنمية
كعملية إجرائية. و قد كان لاستعادة الجزائر سيادتها السياسية في سنة 1962
أن توفر الشرط الأساسي لضمان المجتمع حرية القرار السياسي ، إلا أن هذا
الشرط وحده غير كافٍ لوضع أرضية إنمائية تنطـلق منها لتطبيق سياسة شاملـة
في مجـالات الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و التربوية ، و
بالتالي فانه من الصعب الحكم على أن الاستقلال السياسي قد حول المجتمع
الجزائري مباشرة من حالة ” تنمية” ، ذلك أن الإرادة السياسية ينبغي أن
تقترن بالإرادة الاقتصادية ، و هذه الأخيرة بدورها لا يمكن أن تصبح حقيقة
إلا إذا توافرت شروط اقتصادية و فنية (محمد بالقاسم حسن بهلول : 1985 ،
46).
لقد
طرحت مسألة الاختيار بين بدائل السياسة التنموية المتباينة في محتواها و
المختلفة في منطلقاتها الأيديولوجية ، و طرحت معها كذلك مشكلة بناء الإنسان
الجزائري ، إلا أن هذه القضية ليست وليدة الاستقلال ، بل تعود بجذورها الى
ما قبل الحرب التحريرية : فالسياسيون من قادة الحركة الوطنية يرون أن
تغيير المجتمع غير ممكن في ظل السلطة الاستعمارية الفرنسية لأنها هي التي
تمتلك وسائل التغيير حسب مبتغاها (عبد الله شريط : 1981 ، 77-78). و مهما
يكن من أمر ، فإن السؤال الرئيسي الذي يبرز كإشكالية هو هل يتم تغيير
الإنسان أولا لجعله قادرا على تغيير محيطه أم يتم البدء باللجوء إلى تغيير
محيطه و بالتالي يتغير الإنسان تلقائيا نتيجة تأثره بتغيير هذا المحيط ؟.
طرحت
هذه المسألة كقضية أساسية تشكل الإجابة عنها منطلق الاختيار ، و ضمن هذا
السياق تبنت الجزائر الاختيار الاشتراكي كأسلوب لبناء المجتمع الجزائري في
المجالات المتعددة الاقتصاديةو الاجتماعية و الثقافية. و لم يكن هذا
الاختيار وليد الصدفة ، بل نجد له إرهاصات في تطلعات الحركة الوطنية مثل :
- إقامة نظام اجتماعي جديد يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية.
- إقامة العلاقات الاجتماعية على أسس ديمقراطية.
- تحقيق مجانية التعليم و إجبار يته على جميع الأطفال من كلا الجنسين.
- النهوض بالعمل و العمال مع الاهتمام بقضايا الأجور.
- مصادرة الأملاك الكبيرة و إعادتها للفلاحين.
- ملكية الدولة للهياكل الأساسية للاقتصاد (مصطفى زايد : 146 ، 147 ).
وضمن
هذا المنظور ، لجأت الجزائر بعد الاستقلال السياسي إلى محاولة تطبيق سياسة
تنموية شاملة تبلورت رؤاها ضمن النصوص الأساسية و المواثيق :
1- برنامج طرابلس (1962) : يحدد
هذا البرنامج الأرضية التي تجسد عليها عملية التنمية. فهو بادئ ذي بدئ ،
يحلل المحتوى الاجتماعي لحركة التحرير الوطني في الفئات الاجتماعية التالية
:
- فـئة
الفلاحـين الفقراء الذين ذهبوا أساسا ضحية لنزع الملكية العقارية و
التحديد والتمركز والاستغلال من طرف المستعمرين ، و الأمر يتعلق بالفلاحين
الدائمـين كبارهم و صغارهم و الموسمين و الخماسين الذين قد يضاف إليهم صغار
المـلاك.
- فـئة
البروليتاريا و المنتـمون إليها قلـيلون ، و ما تحت البروليتاريا المكتظـة
أعـضاؤها في المدن و نجدهم في أغـلب الأحـيان من الفلاحـين الذين طـردوا
من ملكيتهم المنزوعة و اضطروا إلي البحث عن عمل بعيد عن الأرياف ، بل و حتى
إلى الهجرة إلى فرنسا حيث يعملون عادة في الأعمال الشاقة بأبخـس الأجور.
- فـئة
اجتماعية أخرى متوسـطة ، و هي تمثل أصحاب الصناعات التقليدية والمستخدمـين
الصغار و المتوسطين و الموظفين ، و صغار التجار ، وعددا من أصحاب المهن
الحرة ، و كلهم يكونون ما يسمى بالبرجوازية الصغيرة ، و غالبا ما كانت هذه
الفئة تشارك بنشاط في كفاح التحرير بتقديم الإطارات السياسية.
- هناك أخـيرا طبقـة برجوازيـة نسبيا لا تهم كثـيرا ، تتكون
من بعض رجـال الأعمال وكبار التجـار و أصحاب الصناعات ، و يضـاف إلى هذه
الطبقـة بعض الملاك العقاريـين و أعـيان الإدارة الاستعمارية. إن هاتـين
الطبقتـين الاجتماعيتين قد شاركـتا في الثورة دوريـا ، إما عن ايمـان وطـني
أو بصفة انتـهازية ، و إنه ينبـغي أن نستثـني منهم الإقطاعـيين الإداريـين
و الخونة الذين انضموا كـليا إلى الاستعمار (وزارة الإعـلام و الثقافـة :
1976 ، 74-75).
استنادا
إلى ذلك ، فقد حاول برنامج طرابلس أن يدرس الوضع العام للمجتمع الجزائري
قبل و أثناء حصوله على الاستقلال السياسي ، وذلك من خلال إبراز الخصائص
الأساسية لحركة التحرير الوطني ، موضحا أن مكاسب الكفاح و تنظيمها و
إتمامها يجب أن تدرس ، و هنا تكمن المهمة التاريخية للثورة الديمقراطية
الشعبية ، و هذا يقـتضي بالضرورة جهدا في تحليل و تكوين مناسبين ، و توجيها صحيحا و صارما ، كما أنه يتطلب اختيارات واضحة و هناك أمران اثنان يجب أن نستلهمهما في عملنا و هما :
- الانطلاق من الواقع الجزائري من خلال معطياته الموضوعية و مطـامح الشعب.
- التعبير
عن هذا الواقع على أن نأخذ بعين الاعتبار متطلبات التقدم العصري و
اكتشافات العلم و تجارب الحركات الوطنية الأخرى و محاربة الإمبريالية في
العالم.
وكذلك
، فإنه يجب تفادي الاستلهام من الصـيغ الجـاهزة دون الرجوع إلى واقع
الجزائر الملموس ، و يجب بنفس الطريقة أن نحترز من الانجرار إلى خطأ الذين
يزعمون الاستغناء عن تجربة الغير و ما تقدمه الحركات الثورية في عصرنا
(وزارة الإعلام والثقافة : 1976-74-75).
و
من هذا المنطلق ، يسعى برنامج طرابلس إلى بناء مجتمع متوازن اجتماعيا و
اقتصاديا. و على هذا الأساس فإن خطوطه العريضة تتمحور حول النقاط المستخلصة
على النحو التالي :
- بناء اقـتصاد وطني ، يرتكـز على مبدأ التخطـيط في توظيف الموارد المادية و البشرية في قطاعاته المختلفـة.
- تحقيق المطامح الاجتماعية للجماهير عن طريق رفع مستوى المعيشة ، و القضاء على البطالة.
- و محو الأمية ، و تطوير الثقافة الوطنية.
- انتهاج سياسة خارجية مستقلة ، تتمثل خطوطها العريضة في محاربة الاستعمار و الإمبريـالية
من
خلال دعم علاقات الجزائر بالبلدان الاشتراكية ، و التحالف مع البلدان التي
نجحت في دعم اسـتقلالها و تحررت من السيطرة الإمبريالية ، و كذلك دعم
حركات التحرر و النضال من أجل التحرر الدولي.
2- ميـثاق الجـزائر (1964) :تضمن
محـتوى هذا الميثاق معالجـة الآثـار التي خلفها الاستعمار الفرنسي في
الجزائر ، و ذلك بتحليل الوضع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي ،
و كذلك التطرق إلى أهم القضايا التي تشغل بال القيادة السياسية – في
المرحلة ما بعد الاستقلال – و التي تعبر عن طموحات الشعب و أمانيه في إعادة
بناء المجـتمع اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا لتحقيق القدم و تحسـين مستوى معيشة الفرد الجزائري ، و على هذا الأساس تنصب أهم أهداف التنمية في تلك المرحلة حول النقاط التالية :
- إعـادة الوجه الحقـيقي للإسلام .
- السعي من اجل انتصار مبادئ الديمقراطية.
- مناهضة الإمبريالية عن طريق تبني الاشتراكية.
- العمل على إزالة الفوارق الجهوية و تقريب الهوة بين الريف و المدينة.
- القضاء على التباين في عادات الاستهلاك بين فئات الشعب المختلفة و تحسين مستوى معيشة الفرد الجزائري.
- بناء مجتمع صناعي متحرر من التبعية.
- ضرورة
خلق فكر سياسي و اجتماعي مستمد من قيمنا الخاصة ، مغـذى بالمبادئ العلمية،
محصن ضد المواقف الفكرية الخاطئة ، تدلنا على أهمية مفهوم جديد للثقافـة.
- توفـير الخدمات الصحية في كافة المناطق.
- إزالة الأمية عن طريق تحقيق ديمقراطية التعليم.
- إدخال اللغة العربية في التعليم ( ميثاق الجزائر 1964 ، 35-78 ).
3-الميـثاق الوطـني (1976) :يعتبر الميثاق الوطني بمثابة الإطار
المرجعي للسياسة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية في الجزائر ، فلقد
تضمن بلورة الرؤى المختلفة التي تعرضنا الى بعضها سواء في برنامج طرابلس
(1962)
، أو في ميثاق الجزائر (1964). و عليه ، فإن الميثاق الوطني هو ” استمرار
لعملية التوضيح السياسي ، و البلورة الأيديولوجية التي ما فتئت تتطور منذ
أكثر من 20 سنة ابتداء من نداء أول نوفمبر 1954 ، و وثيقة الصومام 1956 و
برنامج طرابلس في 1962 ، و ميثاق الجزائر في 1964 إلى بيان 19 يونيو 1965 ،
وهو يمثل بدون شك مساهمة جديدة في التحرير الكامل للشعب الجزائري، و يعبر
في آن واحد عن تطـلعاته العميقـة و إرادته الجبارة ” (حزب جبهة التحرير
الوطني ، الميثاق الوطني : 1976،
.
و
من هذا المنطـلق تتحدد معالم بناء المجتمع الجزائري في اتبـاع الاشتراكية
كنظام اجتماعي و اقتصادي . ” ذلك أن الاشتراكية في الجزائر ليست اختيارا
تعسفيا ، و لا نظاما مستوردا ألصق بجسم أمة خـامدة ، و إنما في مسـيرة حية
تضرب بجـذورها في أعماق الكفاح من أجل التحرير الوطني ، و ترتبط ارتباطا
وثيقا بالأمة الناهضة و بمصـيرها ” (حزب جبهة التحرير الوطني ، الميـثاق
الوطني : 1976، 30). و على هذا الأساس فإن الاشتراكية في الجزائر ترمي إلى
تحقيق أهداف ثلاثـة :
- دعم الاستقلال الوطـني.
- إقـامة مجتمع متحرر من استغلال الإنسان للإنسان.
- ترقية الإنسان و توفـير أسباب تفتح شخصيته و ازدهارها (حزب جبهة التحرير الوطني ، الميثاق الوطني : 1976، 30).
إن القراءة التحليليـة لمفهـوم الاشتراكية و محاربة بنائها في الجزائر يتضمن وجود مـبادئ أساسية تتمثل في :
1-القضاء على استغـلال الإنسان للإنسان.
2-إحداث تنمـية شاملـة و منسجمة ، قـائمة على أساس تخطيط علمي المفهوم ، ديمقراطي التصميم ، حتمي التنفيذ.
3-إعطاء القـيمة الحقيقية للعمل من حيث النظر إليه ليس كحق فحسب ، بل هو أيضا واجب و شرف.
4-إعطـاء الأولية لتلبية الحاجات الأساسية للجماهير الشعبيـة.
5-تحرير الفرد وترقيته باعتباره مواطنا مسؤولا (حزب جبهة التحرير الوطني ، الميثاق الوطني: 1976، 39-47).
ضمن
هذا السياق يتمحـور بناء الاشتراكية في الجزائر من خـلال القيام بثلاث
ثورات أساسية تمـثل في مجموعها مجـالا أساسيا لعملية التنمية الشاملة . و
يتعلق الأمر بالثورة الثقافية و الثورة الزراعية و الثورة الصناعية.
استنادا
إلى كل هذه التصـورات المستلهمة من مفهـوم الاشتراكية في الجزائر كنظـام
اقتصادي و اجتماعي ، فان سياسة التنمـية المعتمدة من قبل المجتمع الجزائري
محددة بمجموعة من الاتجاهات الرئيسية المتمثلة في :
- التنمية قاعدة و مطلب للاستقلال الاقتصادي و للرقي الاجتماعي.
- وسائل التنمية المستقلة.
- تحكم الدولة في دواليب الاقتصاد و التعبئة المكثفة للادخار.
- اعتماد أسلوب التخطيط لتجسيد محتوى السياسة الثورية و تطبيقها.
- تشغيل المواطنين القادرين على العمل .
- النهوض التكنولوجي.
- التعاون مع الخارج (حزب جبهة التحرير الوطني ، الميثاق الوطني : 1976، 226).
صفوة
القول .. فإنه من خلال تحليل معطيات المواثيق السابقة و تصوراتها بدءا
بتطلعات الحركة الوطنية و انتهاء بالميثاق الوطني ، يمكن استخلاص بعض
التوجهات الرئيسية في كيفية بناء المجتمع الجزائري و أسلوب تنميته :
- بناء دولة عصرية ذات سيادة و اقتصاد قوي.
- اخـتيار الاشتراكية كنظام اقتصادي و اجتماعي ترتبط فلسفتـه بخصائص الشخصية الوطنية و مطـامح الشعب الجزائري.
- دعم مقومات الشخصية الوطنية و إبراز هوية المجتمع الجزائري.
- تحقيق ديمقراطية التعليم و التكوين و اكتساب القدرة العلمية و المهارات التكنولوجية.
- النهوض بمستوى المرأة و إشراكها في التنمية.